لا تزال القضية الفلسطينية هي المختبر الذي يظهر سلامة وصدق العينات الوطنية من خرابها وفشلها وخيانتها، والذي يفصل جزئيات الأنظمة ويفككها ويضعها تحت المجهر، ليكشف مستوى التأييد والاصطفاف والتآمر، ويحدد الجراثيم التي تستوطن جسد الأمة والأورام الخبيثة التي تتعايش معها الأنظمة.
العمر الزمني لهذا المختبر تجاوز السبعين عاماً، لكنه لا يزال قادراً على تعرية الأرواح والأجساد واختراق هالتها المهترئة من دون استخدام تقنيات عالية؛ مختبر بسيط وبدائي وساذج، لكنه شديد الفعالية وخطير جداً، ولأنه كان ولا يزال يشكل كاشفاً للفضائح من مواقف وسياسات موبوءة وصدئة، فإن كل من دخل هذا المختبر من أشخاص ودول وأحزاب وتنظيمات؛ عقدوا العزم على تدميره ومسحه من الوجود، حتى يتخلصوا من نتائجة المحرجة لهم، والتي تدينهم بالعجز والهزيمة والخيانة والتواطؤ وقلة الشرف والدين والقيم، وكل وصف شائن ومريب وزنيم، لأنه بات عبئاً عليهم، ومرآة تكشف لهم عوراتهم، ولا يستثني هذا المختبر الفلسطينيون سيما القيادات، حيث نتائج فحص العينات أظهرت ومنذ سنوات طويلة أنهم غير جديرين بقيادة شعب جبار صبر سبعين عاماً على مواقفهم القريبة من الزنا بالمحارم، والشواهد لا تُحصى ولا تُعد، ابتداءً من سوء إدارة هذا الشعب وطنياً وإنسانياً واقتصادياً وعلمياً، مروراً بالاقتتالات التي أنهكت الشعب، وتمزيقه إلى مجموعات لا تعرف من الوطنية سوى راتب آخر الشهر، ووصولا إلى الاتفاقيات المُذلة التي تنازلت عن كامل التراب الفلسطيني، والآن إلى دفع الفلسطينيين نحو الهجرة من دول الشتات إلى دول المعمورة التي ساهمتْ في إنشاء الكيان الصهيوني الغاصب.
سلسلة طويلة من الهزائم والإحباطات والغباء الوطني والثوري، الذي لم تلامس إستراتيجياته قشور العمل النضالي الحقيقي، وحولت القضية الفلسطينية إلى مشهد فلكلوري بامتياز، جوهره الدبكة والأغنية والمعارض الحرفية والأزياء والخطابات الرنانة التي بات الجيل الجديد من الفلسطينيين يتهكم عليها لشدة سطحيتها وخواء معانيها وعجزها وعدم ترجمة 1% منها إلى واقع.
القيادات الفلسطينية لا تزال (تطفوا على شبر ماء)، تهيج وتهيّج العامة وتعود إلى بيوتها تراجع أفلام الفيديو والصور التي التُقطت لها وهي (تناضل) بالصوت الفارغ، القيادات التي حولت الشعب الفلسطيني من وصفه بأكثر الشعوب العربية ثقافةً وتعليماً، إلى شعب جاهل، خاصة في مخيمات الشتات؛ حيث التلميذ يغادر المدرسة بعد اتمامه المرحلة الإعدادية، حيث الفوضى تسود شوارعها، حيث الخطاب بين أبناء الشعب الواحد انحدر إلى الحضيض!
القيادات العربية كانت (تتثاءب) وهي تناقش القضية الفلسطينية، وتغفوا في مؤتمراتها، أما الآن فهي نشطة وبكامل همتها، لأن المؤتمرات جميعها تصب في القضاء على القضية والتخلص من اللاجئين؛ أحدث تصريحات المسؤولين اللبنانيين جاءت على لسان الوزير سجعان قزي حيث قال (الموضوع الفلسطيني ليس موضوع توظيف، إنما هو في الحقيقة موضوع توزيع، بمعنى أنه على الفلسطينيين البحث عن عنوان جديد غير البقاء في لبنان إلى الأبد، خاصةً بعد إسقاط حق العودة..). والوزير سجعان قزي ينتمي لحزب الكتائب، وهذا الحزب هو الذي تسبب بالحرب الأهلية حين ارتكب مجزرة ضد الفلسطينيين في العام 1975، وهذا الحزب هو الذي قاد فكرة طرد الفلسطينيين من لبنان منذ 45 عاما، أي أن أفكاره ليست جديدة لكنها تعود الآن في قالب آخر. وسجعان قزي صوت مباشر وصريح لكن هنالك أصواتاً عربية صامتة تعمل في الخفاء، ومنها ما بات يعمل في العلن، وتقابل الإسرائيليين وتستضيفهم بذريعة الأمر الواقع.
(إسرائيل) أصبحت أمراً واقعاً، هكذا يقتنع العرب، ولهذا فإن قضية فلسطين باتت أمراً وهمياً؛ قصة خرافية، خيالات شعراء، كابوساً، ولهذا يتمنون أن يستيقظوا ذات يوم ليجدوا أن لا قضية فلسطينية تعكر تطورهم الاقتصادي وتمنعهم من معانقة نتنياهو، فيتخلصوا من المختبر ويعملوا على تدميره ومسحه من التاريخ. لكن من سوء حظهم أن هذا المختبر موجود في ذهن كل طفل فلسطيني، وسيبقى حياً إلى أن يتناول العرب والقيادات االفلسطينية حبوباً تعالج افتتانهم بذواتم الخائبة الهشة، وبالكيان الإسرائيلي وأبويه الشرعيين المملكة المتحدة والولايات المتحدة.
----------
أنور الخطيب *
* شاعر وكاتب فلسطيني